[حجبت إدارة موقع الجزيرة بالانجليزية مقالة جوزيف مسعد "آخر الساميين" بعد أن كانت قد نشرتها في الذكرى الخامسة والستين للنكبة، وذلك إثر ضغوطات سياسية من جهات صهيونية. إلا أن الجزيرة عاودت نشر المقالة عقّب النقد الشديد الذي لاقته واتهامها بالانصياع لأجندات سياسية مناوءة للقضية الفلسطينية.]
منذ بواكير الصهيونية، أدرك معارضوها اليهود بأن الحركة الصهيونية لا تشاطر اللاسامية تعاليمها بتشخيص ما أسماه المسيحيون الأوروبيون "المسألة اليهودية" فحسب، بل إنها، وهو ما أثار حفيظة هؤلاء اليهود المناهضين للصهيونية، تتفق مع اللاسامية أيضاً في "الحل" الذي عرضته الأخيرة للمسألة اليهودية وما انفك يطالب به اللاساميون، ألا وهو طرد اليهود من أوروبا.
المسيحيون الصهاينة
كانت حركة الإصلاح البروتستانتي، عبر إحيائها للتوارة (التاناخ) العبرانية، أول من ربط بين يهود أوروبا الحديثين والعبرانيين القدامى في فلسطين؛ فيما قام علماء فقه اللغة الأوروبيون في القرن الثامن عشر بترسيخ هذا الربط عبر "اكتشافهم" لعائلة اللغات "السامية"، ومن بينها العبرية والعربية. وفي حين أصر "البروتستانت الألفيين" على أنه يتحتم على اليهود المعاصرين، كونهم سليلي العبرانيين القدامى، مغادرة أوروبا إلى فلسطين وذلك لتعجيل مجيئ المسيح؛ فقد تمخضت "اكتشافات" علم فقه اللغة عن وسم اليهود المعاصرين "بالساميين". وبالتالي لم يكن "الاكتشاف" الذي ستعلنه العلوم البيولوجية في القرن التاسع عشر في حقليّ العرق والوراثة بأن اليهود الأوروبيين المعاصرين هم من سلالة عرق اليهود القدامى بالقفزة الهائلة.
وانطلاقاً من الربط الذي نادى به "البروتستانت الألفيين" المعادون لليهود، فقد أخذت أعداد الشخصيات الأوروبية العلمانية في القرن التاسع عشر التي رأت ثمارا سياسية يمكن أن تجنى من "إعادة" اليهود إلى فلسطين بالتعاظم. فبخلاف الألفيين، لم يكن السياسيون العلمانيون من نابوليون بونابرت إلى وزير الخارجية البريطاني اللورد بالميرستون (1785-1865) مروراً بإرنست لاآران ، السكرتير الخاص لنابوليون الثالث في ستينيات القرن التاسع عشر، يعيرون أمر تعجيل مجيئ المسيح اهتماماً، بل كان مردّ اقتراحهم بطرد يهود أوروبا إلى فلسطين هو استخدامهم كعملاء للإمبريالية الأوروبية في آسيا. وقد اعتنق هذا الفهم الكثير من "اللاساميين" – وهي تسمية جديدة أطلقها عنصريون أوروبيون معادون لليهود، بعد أن ابتكرها في العام 1879 صحفي مغمور من فيينا يدعى ويلهلم مار، كان قد أصدر برنامجاً سياسياً بعنوان "انتصار اليهودية على الألمانية". وقد كان مار متنبها لأهمية فك الربط ما بين اللاسامية وتاريخ الكراهية المسيحية لليهود على أسس دينية، مشدداً، تماشياً مع علم فقه اللغات السامية والنظريات العرقية السائدة في القرن التاسع عشر، على وجوب أن تقوم التفرقة ما بين اليهود والآريين على أسس عرقية بحتة.
أصرّت اللاسامية العلمية على أن اليهود مختلفون عن المسيحيين الأوروبيين، بل أنهم في الواقع غير أوروبيين البتة، وأن وجودهم في أوروبا هو تحديداً علة وجود اللاسامية الرئيسة. أما العلة وراء الكثير من المشاكل التي يسببها اليهود للمسيحيين الأوروبيين، فيعود، حسب زعم اللاساميين، إلى كونهم دون جذور، وليست لهم دولة، ولذا فهم لا يدينون بالولاء لأية دولة. وفي العصر الرومانسي للقومية الأوروبية، ادعى اللاساميون بأن اليهود لا يتوافقون والتشكيلات القومية الجديدة، وبأن وجودهم فيها يقلل من نقائها القومي والعرقي الذي يشكّل جوهر غالبية القوميات الأوروبية. وعليه فقد ادعى اللاساميون بأن من شأن بقاء اليهود في أوروبا أن يستثير عدائية المسيحيين الأوروبيين لهم. ومن هنا فإن الحل الوحيد هو خروج اليهود من أوروبا وإقامة دولة خاصة بهم. من نافل القول أن اليهود المتدينين والعلمانيين على حد سواء كانوا قد عارضوا بشدة نهج التفكير اللاسامي المروّع هذا. فسواء كانوا يهوداً أورثوذكس أو إصلاحيين، إشتراكيين أو شيوعيين، كوزموبوليتانيين أو منادين بالثقافة الإيديشية، فقد أجمعوا جميعاً على أن هذه أيديولوجيا عداء خطيرة تهدف لطرد اليهود من أوطانهم الأوروبية.
اليهود المعادون للصهيوينة
نزعت حركة التنوير اليهودية، أو الهاسكلاه، التي برزت أيضاً في القرن التاسع عشر، إلى صهر اليهود في ثقافة المسيحيين الأوروبيين العلمانية وحثهم بذلك على نبذ ثقافتهم اليهودية. وقد كانت الهاسكلاه هي التي سعت لكسر هيمنة الحاخامات اليهود الأورثوذوكس على يهود شرق أوروبا القاطنين في القرى اليهودية التي كانت تدعى "شتيتل"، وعلى نبذ ما رأت أنه يمثل ثقافة يهودية تنتمي لـ"لعصور الوسطى" لصالح ثقافة المسيحيين الأوروبيين الحديثة والعلمانية. وقد انبثقت حركة الإصلاح اليهودية، كطائفة يهودية متشبّهة بالمسيحية والبروتستانتية، من صميم الهاسكلاه. وقد كان هذا المشروع الدمجي، على أية حال، يسعى لصهر اليهود في الحداثة الأوروبية، لا لطردهم خارج الجغرافيا الأوروبية.
عندما انطلقت الصهيونية بعد مضي عقد ونيّف على نشر برنامج مار اللاسامي، اعتنقت كل هذه الأفكار المعادية لليهودية، بما في ذلك اللاسامية العلمية، واعتبرتها صحيحة. كما اعتبرت الصهيونيةُ اليهودَ بأنهم "ساميون" من سلالة العبرانيين القدامى. ويشرح هرتسل في كُتيبه التأسيسي "دولة اليهود" كيف أن اليهود، وليس أعداؤهم المسيحيون، هم "المتسببون" باللاسامية وأنه "حيثما انعدمت [اللاسامية] فإنها تُنقل بواسطة اليهود أثناء هجراتهم". وفي واقع الأمر،حسب هرتسل، فـ"إن اليهود التعساء يحملون الآن بذور اللاسامية إلى إنجلترا؛ كما سبق لهم أن أدخلوها إلى أمريكا"، وبأن على "الشعب" اليهودي مغادرة أوروبا من أجل استعادة "سيادته القومية" في فلسطين أو في الأرجنتين؛ وبإن على اليهود محاكاة ثقافة المسيحيين الأوروبيين ونبذ التقاليد واللغات اليهودية الحيّة وتبني إما لغات أوروبية حديثة أو إحياء لغة قومية قديمة. وفي الواقع، فقد فضّل هرتسل أن يتبنى جميع اليهود اللغة الألمانية، بينما فضّل الصهاينة الشرق أوروبيون العبرية. وزيادة على ذلك، فقد اتفق الصهاينة بعد هرتسل بل وأكدوا على أن اليهود منفصلون عرقياً عن الآريين. أما بالنسبة للغة الإيديشية، اللغة الحية التي كان يستعملها غالبية اليهود الأوروبيين، فقد توافق كل الصهاينة على ضرورة نبذها طرا.
واصلت غالبية اليهود مقاومتها للصهيونية والنظر إلى تعاليمها على أنها تعاليم لاسامية تشكل امتداداً لمطلب الهاسكلاه بنبذ الثقافة اليهودية وانصهار اليهود في ثقافة المسيحيين الأوروبية العلمانية؛ أما الصهيونية، فقد ارتأت، بخلاف الهاسكلاه، أن هذا الإنصهار ممكن، ولكن ليس داخل أوروبا وإنما على منأى جغرافي منها، وذلك عقب طرد اليهود من أوروبا. وقد أصبح “البوند”، أو النقابة العامة للعمال اليهود في ليتوانيا وبولندا وروسيا، والتي تم انشاؤها في مدينة فيلينيوس في أوائل تشرين أول/ أكتوبر1897، بعد أسابيع قليلة فقط من انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل في أواخر آب/أغسطس 1897، ألدّ أعداء الصهيونية. وقد انضم البوند للائتلاف اليهودي القائم المناهض للصهيونية والمكون من حاخامات أرثوذوكس وإصلاحيين، والذين كانوا قد تضافروا قبل أشهر قليلة لمنع هرتسل من عقد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة ميونيخ، مما اضطره في النهاية إلى نقله إلى مدينة بازل السويسرية. وحظيت المناهضة اليهودية للصهيونية بدعم غالبية يهود أوروبا والولايات المتحدة الذين دأبوا على اعتبار الصهيونية حركة معادية لليهود حتى بداية الأربعينيات.
الصهاينة اللاساميون
إنطلاقاً من إدراكه أن خطته بصدد مستقبل اليهود الأوروبيين كانت متّسقة مع خطط اللاساميين، وضع هرتسل منذ مرحلة مبكرة استراتيجية مبنية على تحالف معهم. وقد صرّح هرتسل في كتييب "دولة اليهود" أن "حكومات كل الدول الموبوءة باللاسامية ستكون معنية جداً بمد يد العون لنا للحصول على السيادة التي نصبوا إليها". كما أضاف أنه ليس "اليهود الفقراء فقط" هم من سيسهم بصندوق لدعم هجرة اليهود الأوروبيين "وإنما أيضاً المسيحيون الذين يرغبون بالتخلص منهم". وأسر هرتسل في سجل يومياته دونما تقديم الأعذار: "سيصبح اللاساميون أصدقاءنا الذين يمكننا الاعتماد عليهم أكثر من أي صديق آخر وستصبح الدول اللاسامية حليف لنا". لذلك فعندما باشر هرتسل في عام 1903 بلقاء شخصيات لاسامية سيئة الصيت لم يكن من قبيل الصدفة التقاؤه بوزير الداخلية الروسي فيشيسلاف فون بليفه Plehve الذي أشرف على المذابح التي استهدفت اليهود في روسيا، بل كان تحالفاً سعى اليه هرتسل بكامل وعيه. كما أنه ليس من قبيل الصدفة أن يقوم اللورد بلفور اللاسامي، بصفته رئيس وزراء بريطانيا، الذي أشرف عام 1905على "قانون الأجانب" الذي سنته حكومته، والذي منع يهود شرق أوروبا الفارين من مذابح روسيا من الدخول إلى بريطانيا، من أجل،–كما سوغها هو،- انقاذ الدولة من "الشرور المحققة" جراء "هجرة غالبيتها يهودية"، أن يكون هو ذاته صاحب وعد بلفور سيء الصيت الصادر عام 1917، عندما كان بلفور وزير خارجية، لإقامة "الوطن القومي" لـ"لشعب اليهودي" في فلسطين، فقد كان وعده معدّاً في جملة أهدافه لوقف الدعم اليهودي للثورة الروسية ولوضع حد لتزايد أعداد المهاجرين اليهود غير المرغوب فيهم في بريطانيا.
لم يكن النازيون استثناءا في ركب اللاساميين المتحمسين لمناصرة الصهيونية. وفي الواقع، كان الصهاينة قد توصلوا إلى اتفاق مع النازيين في مراحل مبكرة جداً من تاريخهم. وقد كان ذلك في العام 1933 حين وُقّع على اتفاق الترحيل (هاعفرا) الشهير بين الصهاينة والحكومة النازية من أجل تيسير ترحيل اليهود الألمان وممتلكاتهم إلى فلسطين، الأمر الذي أدى إلى كسر المقاطعة اليهودية العالمية لألمانيا النازية والتي كان قد دشنها اليهود الأمريكان. وانسجاما مع هذه الروح، فقد تم ارسال مبعوثين نازيين إلى فلسطين لاستطلاع مدى نجاح الاستعمار اليهودي للبلاد. وهكذا عاد أدولف آيخمان من رحلته التي قام بها إلى فلسطين عام 1937 حاملا حكايات مذهلة عن انجازات الكيبوتسات الإشكنازية االمؤسسة على مبدأ الفصل العرقي، والتي زار أحدها على جبل الكرمل عندما حل ضيفا على الصهاينة.
وعلى الرغم من معارضة غالبية اليهود الألمان الصارمة لقوانين نورمبرغ للفصل العنصري في العام 1935، إلا أن الاتحاد الصهيوني في ألمانيا كان المجموعة اليهودية الوحيدة التي دعمتها، إنطلاقا من رؤيته المتماثلة مع النازية على أن اليهود والآريين عرقان منفصلان وقابلان للانفصال. ولم يكن هذا بالدعم التكتيكي، وإنما دعم مؤسس على تماثل أيديولوجي. ما عناه النازيون في البداية بـ ”الحل النهائي”، قبل اتخاذهم القرار بالإبادة العرقية، كان ترحيل اليهود إلى جزيرة مدغشقر. وعليه، فإن هذا الهدف المشترك بطرد اليهود من أوروبا لكونهم عرقاً منفصلاً وغير قابل لأن يُستوعَب، هو الذي عمل طيلة الوقت على تكوين الألفة بين النازيين والصهاينة.
اللاسامية الغربية ما بعد الحرب وفوقية العرق الأبيض
في ذات الوقت الذي واصل فيه غالبية اليهود مقاومة الأسس اللاسامية للصهيونية وتحالفها مع اللاساميين، أدت الإبادة الجماعية النازية للقضاء على نحو تسعين بالمائة من اليهود الأوروبيين، وبإبادتهم كانت قد قتلت أيضا غالبية اليهود المعادين للصهيونية والذين ماتوا تحديداً لأنهم رفضوا تلبية نداء الصهيونية للتخلي عن أوطانهم وبيوتهم.
لم يثن الرعب الذي خلفتّه المحرقة اليهودية عقب الحرب الدول الأوروبية عن مساندة البرنامج اللاسامي للصهيونية. بل على العكس، فقد شاطرت هذه الدول النظام النازي ميوله تجاه الصهيونية، وانحصرت معارضتها للنازية ببرنامج الأخيرة للإبادة الجماعية. بل إن الدول الأوروبية، وكذلك الولايات المتحدة الأمريكية، رفضت ايواء وتوطين مئات الآلاف من اللاجئين اليهود الناجين من المحرقة. وقد صوتت هذه الدول فعلياً ضد قرار الأمم المتحدة الذي تقدمت به الدول العربية في العام 1947 مطالبة اياها بايواء اللاجئين اليهود الناجين. بل وكانت هذه الدول هي التي ساندت قرار التقسيم الذي استصدرته الأمم المتحدة لإقامة دولة يهودية في فلسطين عام 1947 كي تطرد جميع هؤلاء اللاجئين اليهود غير المرغوب فيهم اليها.
واصلت الولايات المتحدة والدول الأوروبية ومن بينها ألمانيا، اتباع السياسات النازية الموالية للصهيونية. فلم تقم فعلياً حكومات ما بعد الحرب في ألمانيا الغربية، والتي إدعت بأنها ستفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع اليهود، بأي خطوة من هذا القبيل. فمنذ تأسيس ألمانيا الغربية عقب الحرب العالمية الثانية، اتبعت حكوماتها المتعاقبة (وكل حكومات ألمانيا منذ توحيدها في العام 1990) السياسات النازية الداعمة للصهيونية دون هوادة. وبالتالي لم يكن هنالك قطيعة مع سياسة الدعم النازي للصهيونية البتّة. فالقطيعة الوحيدة مع سياسات النازية كانت في رفض الحكوات الالمانية بعد الحرب الكراهية العرقية الإبادية لليهود التي كرستها النازية ضدهم. ولكن لم تحد هذه القطيعة عن الرغبة برؤية اليهود في دولة ما في آسيا، بعيداً عن أوروبا، كما أراد النازيون. وقد برر الألمان الأموال الطائلة التي كانوا يرسلونها إلى إسرائيل على أنها مساهمة منهم في تعويض تكاليف إعادة توطين اليهود الأوروبيين اللاجئين في إسرائيل.
برز بعد الحرب العالمية الثانية إجماع جديد في الولايات المتحدة وأوروبا على وجوب ادماج اليهود بعد وفاتهم في الـهوية الاوروبية العرقية البيضاء، وعلى أن الرعب الناتج عن المحرقة اليهودية كان في جوهره رعباً ناتجاً عن مقتل أوروبيين بيض. فقد دأبت الأفلام الهوليوودية عن المحرقة، منذ الستينيات، على تصوير ضحايا النازية من اليهود على شاكلة المسيحيين البيض من أبناء الطبقة الوسطى، وعلى أنهم متعلمون ومثقفون وموهوبون، أسوة بالمسيحيين الأوروبيين والأمريكان المعاصرين الذي يتوجب عليهم، بل يجدر بهم، التماثل معهم. فلو صَوّرت هذه الأفلام اليهود المتدينيين الفقراء الشرق أوروبيين (وغالبية يهود شرق أوروبا الذي قتلوا على يد النازيين كانوا فقراء والكثير منهم كانوا من المتدينين)، فالافتراض هو أن المسيحيين البيض المعاصرين لن يجدوا قاسماً مشتركاً يجمع بينهم. وبالتالي، فلم يكن رعب المسيحيين الأوروبيين من التطهير العرقي ليهود أوروبا عقب المحرقة رعباً أساسه ذبح ملايين البشر المختلفين عن المسيحيين الأوروبيين، وإنما رعب ناتج عن قتل ملايين من الناس الذين يشبهون المسيحيين الأوروبيين تماما. وهذا ما يفسر كيف أن في دولة مثل الولايات المتحدة، التي لم يكن لهم ضلع في ذبح اليهود الأوروبيين، هنالك ما يربو على الأربعين نصباً تذكارياً للمحرقة ومتحف كبير للقتلى من يهود أوروبا في واشنطن، في الوقت الذي لا تجد فيها نصباً تذكارياً واحداً لمحرقة الأمريكيين الأصليين (الهنود الحمر) أو محرقة الأمريكيين الأفارقة التي ارتكبتهما الولايات المتحدة.
أدرك الشاعر المارتينيكي الشهير إيميه سيزير تماماً فحوى هذه السيرورةً. ففي خطابه الشهير عن الإستعمار، يؤكد سيزير بأن النظرة الارتجاعية لدى المسيحيين الأوروبيين للنازية هي:
"أنها بربرية، ولكنها البربرية الأكثر ضراوة، البربرية المتوِّجة لخلاصة البربريات اليومية كلها؛ تلكم هي النازية، نعم، ولكن قبل أن يكون [الأوروبيون] ضحاياها، فقد كانوا متواطئين معها؛ فقد تسامحوا مع النازية قبل أن يصيبهم أذاها، وذلك بأنهم غفروا لها، وأغلقوا أعينهم عنها ومنحوها الشرعية، تحديداً لأنها، حتى تلك اللحظة تحديدا، كانت تطبّق على غير الأوروبيين فقط؛ تواطؤهم معها كان بأنهم كانوا رعاتها وكانوا مسؤولين عنها، وذلك قبل أن تغرق كل الحضارة المسيحية الغربية في مستنقعها الدموي، الذي تتسرب مياهه وترشح وتدلف من كل صدع ".
إن ما يراه سيزير بأن النازية والمحرقة قد شكلتا انقلاب الاستعمار الأوروبي على اوروبا ذاتها لهو غاية في الصحة. ولكن، ومنذ إعادة تأهيل ضحايا النازية بضمهم للعرق الأبيض، فقد أخذت أوروبا وشركاؤها الأمريكيون يتبعون سياسات نازية من خلال فرض الرعب على غير البيض من البشر حول العالم، في كوريا وفي فيتنام وفي الصين الهندية، في الجزائر وفي أندونيسيا وفي أمريكا الوسطى والجنوبية وفي إفريقيا الوسطى والجنوبية، وفي فلسطين وفي إيران، وفي العراق وأفغانستان.
لقد شكّلت إعادة تأهيل اليهود الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية جزءاً حيوياً من الدعاية السياسية للحرب الباردة الأمريكية. ففي الوقت الذي طوّر فيه منظّرو وعلماء الاجتماع الأمريكيين نظرية "التوتاليتارية/الشمولية"، والتي افترضت أن الشيوعية السوفييتية والنازية يشكلان جوهرياً ذات النظام الشمولي، غدا اليهود الأوروبيون، كضحايا نظام شمولي واحد، جزءاً من معرض الفظاعة الذي ادعت الدعاية الأمريكية والغرب أوروبية بأنه مشابه للفظاعات التي زعمت أن النظام السوفييتي ارتكبها ويرتكبها في مراحل ما قبل وما بعد الحرب. وقد التحقت إسرائيل، كحلقة إضافية من هذه الدعاية، بركب هؤلاء متهمة السوفييت باللاسامية لرفضهم السماح للمواطنين السوفييت اليهود بترحيل أنفسهم والمغادرة إلى إسرائيل.
وبينما حافظت الولايات المتحدة وأوروبا على التزامهما بفوقية العرق الأبيض، فقد ضُم اليهود الآن كجزء من "البيض" ولما بات يعرف بالحضارة "اليهومسيحية". أما قيام السياسات الأوروبية والأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، التي ما فتئت تستمد ايحاءاتها وإملاآتها من العنصرية ضد سكان أمريكا الأصليين، والأفارقة، والآسيويين، والعرب والمسلمين، بدعم برنامج الصهيونية اللاسامي لصهر اليهود في العرق الابيض في داخل مستعمرة استيطانية بعيدة عن أوروبا، فإنما يشكل استمراراً مباشراً للسياسات اللاسامية الي كانت مهيمنة قبل الحرب. إلا أنه قد تم إعادة توجيه هذا الحقد اللاسامي العنصري بعد الحرب نحو العرب والمسلمين (سواء كانوا مهاجرين ومواطنين في أوروبا والولايات المتحدة أو قاطنين في آسيا وإفريقيا)، في حين يبقى الدعم اللاسامي السابق للصهيونية قائما كما هو دونما لجام.
اللاسامية الألمانية ما بعد الحرب
يعتبر تحالف ألمانيا الغربية مع الصهيونية وإسرائيل بعد الحرب العالمية الثانية، والمتمثل بتزويد إسرائيل بدعم اقتصادي هائل في خمسينيات القرن الماضي وبدعم اقتصادي وحربي منذ الستينيات، بما في ذلك تزويد إسرائيل بدبابات تستخدم في قتل الفلسطينيين وغيرهم من العرب، استمراراً لتحالف الحكومة النازية مع الصهاينة في ثلاثينيات القرن الماضي. وعلاوة على ذلك، فقد قامت حكومة ألمانيا الغربية في الستينيات بتدريب الجنود الإسرائيليين على القتال، ومنذ السبعينيات تقوم ألمانيا (الغربية) بتزويد إسرائيل بغواصات ألمانية الصنع مهيأة للاستخدام النووي، والتي تأمل إسرائيل باستخدامها لقتل المزيد من العرب والمسلمين. وقد قامت ألمانيا في السنوات الأخيرة بتسليح إسرائيل بأحدث طرز الغواصات الألمانية التي زودتها إسرائيل بصواريخ ذات رؤوس نووية؛ وهي حقيقة تعيها الحكومة الألمانية الحالية جيداً. وقد أخبر وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك صحيفة دير شبيغيل في العام 2012 أن على ألمانيا أن "تفتخر" بأنها أمنت وجود دولة إسرائيل "لسنين طويلة". كما موّلت برلين ثلث تكلفة الغواصات، أي حوالي 135 مليون يورو (168 مليون دولار) مقابل الغواصة الواحدة، وسمحت لإسرائيل بتأجيل دفع ثمنها حتى العام 2015. إذن حقيقة أن هذا يجعل من ألمانيا شريكة في اضطهاد الفلسطينيين وطردهم من بلادهم ليس بالأمر الذي يقلق الحكومة الألمانية الحالية، تماماً كما لم يكن هذا الأمر يقلق مستشار ألمانيا الغربية في الستينيات كونراد أديناور الذي أكد أنه "ليس للجمهورية الفدرالية الحق ولا المسؤولية لاتخاذ أي موقف تجاه اللاجئين الفلسطينيين".
يضاف إلى كل هذا المليارات الطائلة التي دفعتها ألمانيا للحكومة الإسرائيلية كتعويض عن المحرقة، وكأنما إسرائيل والصهاينة هم ضحايا النازية، وليس اليهود المناهضين للصهيونية الذين هم في الحقيقة من قتلهم النازيون. ولا تكترث الحكومة الألمانية الحالية لحقيقة أن حتى هؤلاء اليهود الألمان الذين فرّوا من النازية وانتهى بهم الأمر في فلسطين كانوا يبغضون الصهيونية ومشروعها، وبالمقابل كرههم المستعمرون الصهاينة في فلسطين. لقد رفض هؤلاء، كلاجئين ألمان في فلسطين في الثلاثينيات والأربعينيات، تعلم العبرية كما قاموا بإصدار ستة صحف ناطقة باللغة الألمانية في فلسطين، ما دفع بالصحافة العبرية لمهاجمتهم، ومن بينها هآرتس التي نادت إلى حجبهم في كل من الأعوام 1939 و1941. وبالإضافة إلى ذلك، فقد هاجم مستعمرون صهاينة مقهى يمتلكه ألماني في تل أبيب، لأن أصحابه اليهود رفضوا التخاطب بالعبرية. كما وقامت بلدية تل أبيب في حزيران/يونيو 1944 بتهديد بعض سكانها اليهود الألمان لاقامتهم في بيتهم الكائن في شارع ألنبي رقم 21 "حفلات وصالونات راقصة تقام بالكامل باللغة الألمانية، ومن ضمنها برامج دخيلة على روح مدينتنا" وأن ذلك "لن يتم التسامح معه في تل أبيب". ويذكر أن اليهود الألمان، أو الييكي ،Yekke كما كانوا يعرفون بين المستوطنين الصهاينة، أقاموا احتفالاً لمناسبة ذكرى ولادة قيصر ألمانيا في العام 1941 (للمزيد من التفاصيل عن اليهود الألمان اللاجئين في فلسطين، اقرأ كتاب توم سيغيف "المليون السابع").
ولتكتمل الصورة أضف إلى ذلك دعم ألمانيا لسياسات إسرائيل ضد الفلسطينيين في الأمم المتحدة. أما النصب التذكاري الجديد عن المحرقة، والذي بُني في برلين وتم افتتاحه في العام 2005 ، فإنه يعزز الفصل العنصري النازي، حيث أنه "النصب التذكاري للقتلى اليهود من أوروبا" أي أنه مكرّس حصرياً لضحايا النازية اليهود فقط، الذين يتم فصلهم الآن، كما أمر هتلر عندما كان حياً، عن الملايين من غير اليهود الذين سقطوا هم أيضاً ضحايا للنازية. إذن لم يكن مفاجئاً أن تحظى شركة من فروع الشركة الألمانية ديغوسا، التي تعاونت مع النازيين والتي أنتجت غاز الزيكلون بي الذي استخدم لقتل البشر في غرف الغاز، بشرف التعاقد معها من أجل بناء هذا النصب التذكاري، حيث أن هذا ببساطة يؤكد على أن هؤلاء الذين قتلوا اليهود في ألمانيا في أواخر الثلاثينيات وفي الأربعينيات من القرن الماضي، يندمون اليوم على ما اقترفت أيديهم لأنهم باتوا يدركون بأن اليهود كانوا بيضاً أوروبيين لا يحق قتلهم أصلاً. وعليه فيتوجب تذكرهم نظراً لـ"بياضهم". على أية حال، فإن السياسة الألمانية المؤيدة لقتل العرب على يد إسرائيل مرتبطة إلى أعلى درجة بهذا الالتزام باللاسامية المتواصلة والمتمثلة اليوم بهيمنة العنصرية الألمانية المناهضة للإسلام والتي تستهدف المهاجرين المسلمين داخل ألمانيا.
ساميون ضد اللاسامية
أدت المحرقة اليهودية إلى قتل غالبية اليهود الذين قاتلوا وقاوموا اللاسامية الأوروبية، بما في ذلك الصهيونية. وبموت هؤلاء، يشكل الشعب الفلسطيني اليوم أغلبية من تبقى من "الساميين" المناضلين ضد الصهيونية ولاساميتها. وفي حين تصرّ إسرائيل على أن اليهود الأوروبيين لا ينتمون لأوروبا ويتحتم عليهم القدوم إلى فلسطين، فما فتئ الفلسطينيون يؤكدون على أن أوطان اليهود الأوروبيين هي دولهم الأوروبية التي جاءوا منها وليست فلسطين، وعلى أن الاستعمار الصهيوني ينبثق من صميم جوهر اللاسامية. وفي الوقت الذي تصر فيه الصهيونية على أن اليهود عرق منفصل عن المسيحيين الأوروبيين، يصر الفلسطينيون على أن اليهود الأوروبيين هم أوروبيون، ولا علاقة لهم بفلسطين، وبأهلها وبثقافتها. وفي هذا السياق فقد ارتأت إسرائيل وحلفاؤها الأمريكيون والأوروبيون في الستة عقود ونصف الأخيرة ضرورة إقناع الفلسطينيين بأن عليهم هم أيضاً أن يصبحوا لاساميين وأن يؤمنوا، كما يؤمن النازيون وإسرائيل وحلفاؤها اللاساميون الغربيون، بأن اليهود هم عرق مختلف عن الأعراق الأوروبية، وأن فلسطين هي دولتهم، وبأن إسرائيل تتحدث باسم اليهود أجمعين. هذا في الوقت الذي تواصل فيه أكبر كتلتي تصويت أمريكيتين مساندتين لإسرائيل، وهما "البروتستانت الألفيين" والإمبرياليين العلمانيين، التقليد الأورو-أمريكي المعادي لليهود ذاته، والذي تعود أصوله إلى "حركة الإصلاح البروتستانتي" وإمبريالية القرن التاسع عشر. فيما لا يزال الفلسطينيون غير مقتنعين وصامدين في مقاومتهم لللاسامية.
تؤكد إسرائيل وحلفاؤها اللاساميون بأن إسرائيل هي "الشعب اليهودي،" وبأن سياساتها هي سياسات "يهودية"، وبأن إنجازاتها هي إنجازات "يهودية"، وبأن جرائمها هي جرائم "يهودية"، وعليه فإن كل انتقاد لإسرائيل هو حتماً انتقاد لليهود وبأن كل من تسوّل له نفسه انتقاد إسرائيل هو بالتأكيد لاسامي. لقد ناضل الشعب الفلسطيني دون كلل أو ملل ضد هذا التحريض اللاسامي. بل إنه ما فتئ يؤكد على أن الحكومة الإسرائيلية لا تتكلم باسم كافة اليهود، ولا تمثل كافة اليهود، وأن جرائمها الاستعمارية ضد الشعب الفلسطيني هي جرائمها هي وليست جرائم "الشعب اليهودي"، وعليه فيتوجب انتقادها، واستنكارها، ومحاكمتها على جرائم الحرب المستمرة التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني. وليس هذا بموقف فلسطيني جديد، وإنما هو موقف تم تبنيه منذ مطلع القرن العشرين وهو متواصل من خلال النضال الفلسطيني ضد الصهيونية منذ فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها، كما يشدد خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في العام 1974 على كل هذه النقاط:
"وكما استخدم الاستعمار وقتئذ، المحرومين والفقراء والمستغلين، كوقود لنار عدوانه ومرتكزات الاستيطان، كذلك استخدم الاستعمار العالمي والقادة الصهاينة اليهود المحرومين والمضطهدين في أُوروبا كوقود للعدوان ومرتكزات الاستيطان والتمييز العنصري. إن الأيديولوجيا الصهيونية التي استخدمت ضد شعبنا لاستيطان فلسطين بالغزاة الوافدين من الغرب استخدمت في الوقت ذاته لاقتلاع اليهود من دورهم في أوطانهم المختلفة ولتغريبهم عن الأمم. إن [الصهيونية] أيديولوجيا استعمارية استيطانية عنصرية تمييزية رجعية تلتقي مع اللاسامية في منطلقاتها، بل هي الوجه الآخر للعملة نفسها. فعندما نقول أن تابعي دين معين [هم] اليهود، أياً كان وطنهم، لا ينتسبون إلى ذلك الوطن ولا يمكن أن يعيشوا كمواطنين متساوين مع بقية المواطنين من الطوائف الأخرى، فإن ذلك هو اللقاء المباشر مع اللاسامية. وعندما يقولون أن الحل الوحيد لمشكلتهم هو أن ينفصلوا عن الأمم والمجتمعات التي هم جزء منها عبر تاريخ طويل، ثم يهاجرون ليستوطنوا أرض شعب آخر ويحلون محله بالقوة والإرهاب، يأخذون من غيرهم الموقف نفسه الذي الذي أخذه دعاة اللاسامية منهم".
أما ادعاء إسرائيل بأن منتقديها هم بالضرورة لاساميين، فيفترض جدلاً بأن هؤلاء المنتقدين يصدقون ادعاءاتها بأنها تمثل "الشعب اليهودي". وتظل ادعاءات إسرائيل بأنها تمثل وتتحدث باسم كافة اليهود، هي قمة الادعاءات اللاسامية.
ما ترنو إليه إسرائيل والقوى الغربية اليوم هو رفع اللاسامية إلى مرتبة مبدأ دولي، يتطلعون للوصول إلى إجماع تام حوله. ويصرّون على أن شرط تحقيق السلام في الشرق الأوسط منوط بتحوّل الفلسطينيين والعرب والمسلمين إلى لاساميين أسوة بالغرب، وذلك عبر اعتناق الصهيونية والاعتراف بمزاعم إسرائيل اللاسامية. ففي الذكرى الخامسة والستين للغزو الصهيوني اللاسامي لفلسطين، والمعروف عند الفلسطينين بالنكبة، فإنه باستثناء الأنظمة العربية الديكتاتورية والسلطة الفلسطينية الفاسدة وعملائها، ما زال الشعب الفلسطيني والقلة من الناجين اليهود المعارضين للصهيونية يواصلون رفضهم لتلبية هذا النداء الدولي المحرّض على اللاسامية، بل يؤكدون، بوصفهم آخر الساميين، بأنهم ورثة النضال اليهودي والفلسطيني لما قبل الحرب العالمية الثانية ضد اللاسامية وتجلياتها الصهيونية الاستعمارية. إن مقاومتهم هذه هي التي تقف حجر عثرة أمام الانتصار الكامل للأوروبيين اللاساميين في الشرق الأوسط وفي العالم أجمع.
[ نشر للمرة الأولى على موقع الجزيرة الإنجليزية، تعيد جدلية نشره وترجمته بالإتفاق مع الكاتب. ترجمه إلى العربية حنين نعامنة.]